مقالات رأي

بِئْسَ الوضع وَضْعُ البُؤس

حمادي الغاري

لم يبقَ أكثر ممّا فات. فمهما طال الزمن، فلا بد أن ينتهي الأجل. ومهما استمر الركوب والصعود، فلا بد من النزول والهبوط. ومهما بلغ الظلم من القهر والقسوة، فلا بد من يوم يحلّ فيه العدل ويزهق الباطل. “إن الباطل كان زهُوقا”. وليس أحْكَم من :”إن بعد العُسر يُسرا. إن بعد العسر يسرا”. التكرار هنا من باب تأكيد المُؤَكَّد، ومن باب الحِكمة المُحْكَمة..ياذاك الغافل.

كم يكفي الطغاة من الوقت لكي يقضوا على الأخضر واليابس، ولِيتربّعوا على الأشلاء والجماجم وما تبقَّى من عظام رميمة؟ وكم يكفي الجبابرة المستكبرون من الزمن ليكملوا مخططهم الدموي الرهيب حتى النهاية؟

لن يكفيهم كل الزمن ولو عاشوا مئات السنين ،وعمّروا ما شاء لهم أن يعمِّروا في أرض الله الواسعة ،لأن شهية الظلم وشهوة القهر  تظل في أَوْجِ تفتُّحها وانفتاحها ،وفي قمة شَرَهِهَا وشراستها ، وتقول  هل من مزيد، فيبقى الظالم ظالما حتى ولو رُدَّ إلى أرذل العمر، لأن سلطة البطش تعمي البصر والبصيرة  لدرجة ينسى معها أنه مخلوق كسائر المخلوقات محدودة القوة والشكيمة ؛ ويُوسوس له شيطان نفسه أنه “سوبرمان” ،لامثيل له ،ولا يُشْبهه بشر..

لكن المظلوم لا يظل دائما مظلوما. لا بد أن تتهيّأ الأسباب وتتجمّع الشروط، ما نعلم منها وما لا نعلم، ليندحر الطغيان وقوة الاستكبار والغرور، ويزول الاستبداد ،ويذهب مع أهله وحُماته ورُعاته وفاعليه ومُستنصريه إلى مزبلة التاريخ الواسعة ،الشاسعة، التي يلتقي فيها جميع أنواع الفاسدين والمفسدين الذين ملأوا الأرض عذابا وفسادا إلى أن ترفضهم وتلفظهم.. فيصبحون كالأيتام في مأدُبَة اللِّئام.

لم يبقَ أكثر ممّا فات على كل من صَدَّ وخانَ؛ وأكيد لن يبقى أكثر مما مرّ وانقضى. لكن هذا لا يعني الرُّكُون إلى زاوية المَذَّلَة والمَسْكَنة والمهانة ، والاكتفاء بالدعاء وترديد “آمين”؛ كما لا يعني انتظار معجزة ،فتُمْسي الأرض غير الأرض والسماوات غير السماوات، والظلم ، والاستكبار، والغطرسة، والبطش، والعدوان، وما إلى ذلك مما يدخل في دائرة القهر والاستبداد الواسعة المتَّسِعَة.. كل هذا يُصِرّ إصرارا على أن يبقى ويستمر ويبحث لنفسه عن أرْحَب فضاء وأوْسَع نطاق ليُرخي بظلاله على الجميع من أجل أن يسود ويتحكَّم ، لدرجة يصبح المرء ينكر ما يرى، ويغمض عينيه لكي لا يرى ما يجري أمامه من فضائح وفظائع ؛ ومن القيل والقال وكثْرَة السؤال ..وإذا سألت ما الذي يقع ،لا تسمع إلا من يرد “الله أعلم” . والله يعلم أنكم كاذبون ، تلبسون الحق بالباطل.

أمام بُؤْس الوضْع ووضْع البؤس، يجد المرء نفسه يكتوي ويحترق ويذوب في.. صمت؛ يذبل ويموت بالتقسيط؛ وأفضلُنا، أو أسوأُنا، ينفجر همّاً وغَمّاً وكمداً قبل أن يفجّر نفسه اعتقادا منه أنه استُشْهِد من أجل قضية بعد ما لم تبق مروءة فيمن يعتبر نفسه الأفضل والأحسن والأجمل والأروع.. بينما هو في أقصى درجات الثَّمالة والدوخة من فرط الاعتداء على عباد الله، وفي أعلى درجات الزَّهْوِ والانتشاء من كثرة الاعتداد بما لا يُعَدّ ولا يُحصى من الكبائر.. والغريب الأغرب أنه يلْقى التنويه والتشجيع والتكريم ،ويحظى بالرضى والقُبُول ، مما يزيد في عدد المعجبين والمتعجبين، وفي كثرة المنافقين والمتملقين ..وليس في هذا بِدْعةً ولا كذبة ما دام أن “الاستبداد يضطر الناس إلى إباحة الكذب والتحيّل، والخداع والنفاق والتذلّل، ومُراغَمة الحس، وإماتَةِ النفس، إلى آخره؛ وينتج عن ذلك أن يُربَّى الناس على هذه الخصال. بناءً عليه ،يرى الآباء أن تعبهم في تربية الأبناء التربية الأُولى لا بد أن يذهب عبثاً تحت أرجُل تربية الاستبداد كما ذهبت قبلهم تربية آبائهم لهم سُدًى؛ ثم إن عبيد السلطة ،التي لا حدود لها، هُم غير مالِكِين أنفسهم، ولا هُمْ آمنون على أنهم يريدون أولادهم لهم، بل هم يريدون أنعاماً للمستبدّين ،وأعوانا لهم عليهم….” كما قال رجل اسمه عبد الرحمان الكواكبي في كتاب بعنوان “طبائع الاستبداد”.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. I couldn’t refrain from commenting. Exceptionally well written! Greetings!

    Very helpful advice in this particular post!
    It’s the little changes which will make the largest changes.
    Thanks for sharing! I am sure this paragraph has touched
    all the internet people, its really really fastidious
    post on building up new webpage. http://nestle.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى