
الدكتور عبد الجبار شكري(+)
إن إقدام شخص على الاحتجاج بطرق أشد عنفا، مثل إحراق الذات والإضراب عن الطعام ، إلى غير ذلك من وسائل القتل، لها مجموعة من الأسباب النفسية والاجتماعية التي تدفع بالشخص أثناء الاحتجاج بحرق نفسه وهي كالتالي :
بالنسبة للأسباب النفسية نجد ما يلي:
أولا: إن المواطن المعاصر، قد تساوى لديه الموت والحياة أمام ما فقده لذة في المعيش اليومي وأمام إكراهات الفقر والحاجة والحرمان، فالأمر بالنسبة له سيان أن يموت أو أن يعيش ؛ الأمر كله يعني إذا لم يحتج فهو ميت ، وإن احتج فهو ميت لأنه يعرف مصيره المحتوم عند الدولة ، لهذا تطغى عليه، في حالة تعرضه للظلم ، حالة اليأس المطلق ، فيرفع سقف الاحتجاج إلى أقصاه على الدولة ،فيقوم بإحراق نفسه وقتلها لكي يكشف عن الوجه الخفي للدولة و يحمّلها مسؤولية موته لأنها هي التي أوصلته إلى هذا اليأس والموت .

ثانيا : وصلت به سياسة الدولة في وعودها الكاذبة المتكررة إلى فقدان الأمل في المستقبل ، فيقع في اليأس المطلق من كل شيء بما فيه الرغبة في الحياة.
ثالثا: إن حرق الذات هو في حد ذاته انتحار، والمنتحر هو في الأصل يعيش حالة اكتئاب حادة. ومن هنا يمكن القول أن سياسة الدولة أوصلت هذا المنتحر إلى أن يعيش في اكتئاب تام نتيجة انسداد سبل العيش لديه وانغلاق جميع الأبواب أمامه.
فيما يتعلق بالأسباب الاجتماعية المؤدية بالشخص إلى إحراق نفسه نجد ما يلي:
أولا: أنه في عملية احتجاج جماعية أخرى يجد الشخص نفسه يدخل في سيكولوجية الجموع ؛ وسيكولوجية الجموع تخرج الشخص من سيكولوجية الأنا فيجد الشخص في ظل انفعال جماعي قوي يقدم على إحراق ذاته كشكل أقوى للتعبير عن الاحتجاج.
ثانيا : في ظل التهميش والتحقير والإهانة، التي مورست عليه من طرف بعض المسؤولين ، أصبح يشعر بالتفاهة وعدم الوجود والحضور كقوة في المجتمع ، فيشعر من إحراق ذاته لحظة تأكيد لأناه الاجتماعي الذي يتميز بالشجاعة والتضحية.
إن حرق الذات لا تتم إلا في الاحتجاجات .وفي هذا الإطار يمكن أن نميز بين ثلاث مفاهيم سوسيولوجية في حركات الاحتجاج وهي كالتالي:
المفهوم السوسيولوجي الأول هو الانقلاب السياسي ، انقلاب تقوده نخبة عسكرية أو سياسية في الغالب ما يكون وراء الانقلاب تغيير النظام السياسي من أجل تحقيق طموحات نحو السلطة وهو طموح ذاتي لهذه النخبة ، يأخذ صبغة اجتماعية من المطالب تغلف بإديولوجية معينة مضادة للنظام السياسي السابق.
المفهوم السوسيولوجي الثاني وهو الثورة ، وهي حركة احتجاج عامة تعم كل فصائل الشعب تطالب بالإطاحة بالنظام السياسي القائم؛ وهي حركة يحضر فيها العنف بقوة وتكون المبادرة في العنف لدى النظام السياسي بهدف قمع حركات الاحتجاج ، والشيء الجديد في الثورات العربية المعاصرة في تونس ومصر وليبيا أنها ثورة شعبية لا تخضع لقيادة معينة، بل نجد أن سيكولوجية الجماهير الشعبية هي التي تحركها وتديم استمرارها. في حين أن الثورات الأخرى في شعوب أخرى كانت مؤطرة من طرف سياسيين.
المفهوم السوسيولوجي الثااث ويشمل حركات الاحتجاج المطالبة بالإصلاح الشامل و بتحسين الوضعية الاجتماعية والاقتصادية؛ وهذه تقودها النقابات وجمعيات المجتمع المدني أو حركات الاحتجاج الموجهة نحو إدانة فعل لا إنساني وهذه تقودها كل الفصائل السياسية من أحزاب ونقابات وجمعيات. وفي هذا الإطار تدخل، الاحتجاجات القائمة الآن في المغرب لأنها تقوم على تحقيق الإصلاح الشامل مع الاحتفاظ بالنظام السياسي.
إن ظهور احتجاجات الشباب وانكسار الخوف لديهم إلى درجة إحراق الذات ،ورفعهم لشعارات ذات حمولة قوية ، قد تصل إلى حد المطالبة بتغيير شكل النظام السياسي وآلياته ؛إن الخوف هو صناعة الذات في لحظة ضعفها عند مواجهة الإكراهات والإشراطات الاجتماعية والاقتصادية ، وهو حماية الأنا وانغلاقه على نفسه من المصير الذي قد يحدث للأنا في لحظة مواجهة عالم الإكراهات والإشراطات يصبح الخوف بالنسبة للذات هو بر الأمان الذي تتشبت به من أجل الاستمتاع بسيرورة لذة الوجود الذي يتقوى معها الخوف. لكن عندما تنهار سيرورة لذة الوجود للأنا في طاقة الخوف، لم يعد للخوف بالنسبة للأنا أية منفعة برغماتية ، بقدر ما يصبح هو نفسه مصدر الألم والمعاناة . إن سيكولوجية الخوف لا تتقوى إلا عندما تضمن حماية الأنا من الألم والمعاناة ، في هذه الحالة يصنع الأنا منافذ ووسائل لتبرير سيكولوجية الخوف من أجل تحقيق اللذة والسعادة. تنهار وسائل ومنافد التبرير عندما تنهار منفعة الخوف التي هي ضمان وحماية منطق اللذة، وهذا ما حدت للأجيال العربية المعاصرة، عندما فقدت اللذة في المعيش اليومي بسبب البطالة والفقر والمرض والقمع وخنق الحريات ، لم يعد للخوف من مبرر للوجود، ولم يعد يضمن لذة المعيش التي من أجلها تأسس، ويضمن طمأنينة الأنا في الوجود، في هذه الحالة يتساوى عند الأنا الوجود والعدم ؛ ففي الحالتين معا فالأنا منهار وشقي منعدم لذة المعيش، وهذا ما يفسر إقبال بعض المتظاهرين على إحراق أنفسهم. وعندما يهدد المطالبون بالشغل وتحسين ظروف الحياة بقتل أنفسهم إما بالإحراق أو الإضراب عن الطعام.
لقد أوصلت الحكومات المتتالية الشعب المغربي إلى أقصى خط من اليأس وانعدام الأمل في المستقبل جراء الوعود الكاذبة واستغلال لوبيات الفساد لثروات الوطن بشكل بشع على حساب مجموع الشعب . ومن جراء الفساد والتعفن في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية يصبح أمام الشعب إلا الاحتجاج الشعبي والتظاهر السلمي من أجل الإصلاح الشامل والمطالبة بالإطاحة برؤوس التي هي أصل الفساد ؛ ومن هنا انهارت سيكولوجية الخوف عند الأجيال المغربية الحالية الذي لم يعد يحقق لها أية لذة في الوجود وفي حماية الأنا من الانهيار الكلي. ولهذا نجد عند هذه الأجيال تساوي عندها الموت والحياة عندها، فتنفجر طاقة الثورة والاحتجاج والتمرد من أي قيد من القيود. وتصل جماهير إلى أقصى المطالب من خلال رفع شعار” الشعب يريد التغيير”، وهذا هو الشعار الثابت عند كل جماهير الثورة في الوطن العربي الذي يعبر عن انهيار سيكولوجية الخوف.
هناك مجموعة من الأسباب النفسية والاجتماعية التي أدت إلى ظهور الاحتجاجات في المغرب هي كالتالي :
بالنسبة للأسباب السيكولوجية التي أدت إلى ذلك نجد ما يلي :
أولا: الشعور المواطن المغربي بالذل والمهانة والإذلال وعدم الشعور بالكرامة نتيجة سياسة الحكومات المتتالية على الحكم في المغرب فلا برلمان ممثل حقيقي للشعب ولا حكومة تملك في يدها سلطة القرار والتنفيد ولا استقلال في القضاء و تفشي الفساد السياسي والإداري والاقتصادي .
ثانيا: شعور أنا المواطن بكونه فقد كل رأسماله السيكولوجي في الشعور بوجود الذات في مقابل أنا المسؤول في كل قطاع من القطاعات الذي سلب من أنا المواطن رأسماله في الوجود كيان الذات وحرية الذات وكرامة الذات وتحول أنا المواطن المغربي إلى عبودية مقنعة تعمل لخدمة الدولة مقابل عمل مأجور إنه مجرد رعية.
ثالثا: إن سيكولوجية أنا المواطن المغربي تعيش ازدواجية متناقضة في الوجود الحياة والموت، فهو ميت حي ، فهو ميت لأنه فقد كل كينونته الإنسانية في ظل السياسة اللاشعبية للدولة، وهو حي لأنه يعي أنه يمارس فعل الحركة في العبودية للدولة . ولحظة الوعي بالعبودية هذه هي التي دفعت بأنا الموطن المغربي أن يحرر طاقته و يثور من أجل أن يسترجع حق الحياة الإنسانية في الوجود ويلغي لحظة العبودية هذه التي فرضتها عليه سياسة الدولة.
رابعا: اكتساب أنا المواطن المغربي آليات التعبير الحر من خلال المواقع الاجتماعية (فايسبوك، تويتر، يوتوب) بدون التعرض للقمع أو المنع. وهذا جعل أنا المواطن يشعر بقيمة الحرية مما أدى إلى استرجاع الأنا لرأسماله السيكولوجي.
خامسا: تحرر الأنا لدى المواطن المغربي من الخوف عندما لم يعد هذا الخوف يضمن أمان الأنا من الأضرار ويديم لديه لذة المعيش اليومي. كما تحرر أنا المواطن من الخوف عندما تساوى عنده الموت والحياة وتحرر أيضا من الخوف مما رآه يحدث في دول عربية أخرى.
أما فيما يتعلق بالأسباب الاجتماعية التي أدت إلى احتجاجات حر كة 20 فبرايرنجد ما يلي :
أولا: طغيان سياسة الدولة في قمع وخنق حرية التعبير والاعتقال السياسي ومحاكمة مؤسسات وسائل الإعلام.. جعلت المواطن يقوم ثائرا على هذا الوضع الذي ليس فيه أي إحساس بالمواطنة الشريفة.
ثانيا: الاستغلال البشع لثروات البلاد من طرف لوبيات الفساد وجعل المواطن المغربي يعيش في الفقر والمرض والأمية وغلاء المعيشة ..، كل هذا سيجعل الشعب المغربي ثائرا على دولته لأنه لم يعد لديه ما يفقده إن ثار ، وبالعكس ستحقق طموحاته في حالة إذا ثار واحتج على سياسة الدولة.
ثالثا: ظهور المواقع الاجتماعية في الانترنيت جعلت المواطنين يتواصلون فيما بينهم ويشاركون وجدانيا في الاحتجاج على الظلم والاعتداءات التي يتعرض إليها المواطنون من طرف أجهزة الدولة. ونلاحظ أن ثورات الشعوب العربية بدأت بالاحتجاج في المواقع الاجتماعية في الانترنيت..على تعرض أحد المواطنين لحرق نفسه أو تعرض آخر للاعتقال السياسي.
رابعا :تطور تكنولوجيا التواصل، كالهاتف المحمول وآلات التصوير الرقمية جعلت كل المواطن يشكل مؤسسة إعلامية ،وجعلت الجميع يرى بالملموس ظلم أجهزة الدولة لمواطنيها ، بحث يمكن للمواطن أن يصور فعل الاعتداء والظلم ويضعه في مواقع القنوات الفضائية. ولا تستطيع الدولة منع ذلك، مما جعلها ضعيفة في التبرير والإقناع أمام مشاهد الظلم والاعتداء وهدر حقوق الإنسان.
(+)أستاذ باحث في علم الاجتماع وعلم النفس؛باحث مشارك في مختبر الأبحاث والدراسات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة.