ثقافية

بين العين والأذن..

 

د.إسماعيل هموني

بين الأذن والعين مسافة لا تتجاوز أربعة أصابع من اليد الواحدة؛ مسافة تختزل الكثير من الاختلاف في النقل والبناء والتصور والتوصيل. ويكمن الكثير من التأويل المغرض فيها؛ كما يكمن الشيطان في التفاصيل.

تلك المسافة التي تحجب العين عن الأذن، وتجعل الواحدة منهما تشتغل في استقلالية تامة عن الاخرى في الوظيفة والتوليف وكيفيات التأثير.

وبناء عليه، يبني الكثير منا مواقفه وآراءه على إحداهما او هما معا؛ فالعين ، وهي الجارحة الباصرة، تنقل ما ينعكس فيها من مناظر..التي تتشكل لاحقا إلى منظورات تقولب تلك المناظر في نماذج خاصة عبر تخيلات او رؤية تتكامل اطرادا و تجوزا.

فتشكلت عندنا الكثير من المرئيات، واختزنت ذاكرتنا ما نفذ إليها من العين، فكانت العين تراقب، وتنقل، و تجسر. وهي في وضعياتها
تنقل ما تراه، وتغفو عن كثير ، أو قل تتجاوزه، وذاك فعل مقصود، وليس بريئا البتة.

فالعين قائمة على الانتقاء والانتفاء..
تنتقي ما تشتهي؛ وتنفي ما لاترغب فيه. وهي بذلك تعمد إلى التنقيص أوالتزييد، والإشادة أو التبخيس، وهي أصلا دوما منحازة إلى ما تعيه، وتستنكر ما خالفها في النظرة أو التأويل.

تلك هي العين؛ ومن ورائها ثقافة الأبصار.

أما الأذن، وهي حاسة السمع، تراها مشدودة إلى الالتقاط، والتسجيل كما العين، وتركين المعلومات والخبرات في الذاكرة حتى يستوعبها الجسد كله، وتترسخ في مسامات الجلد وما تحت الجلد.

الأذن تعي قدر ما هي مرهفة، تميز الصوت الخشن الأجش من الرقيق الناعم، فيكون السماع اول ابجدياتها، و يفيه الإنشاد من أغراض لها، تجعله محل الصدارة عندها.وهي بذلك ترفع من قدر معلومة و تنحدر باخرى الى الحضيض.

والأذن مشاع الكلام و مهوى سقوطه، فيها ينبت القول أقاويل، ومنها يرتب المتكلمون حصائد ألسنتهم، ومنها تبدا الوشايات واحلك المكائد حتى تشتعل ردات الفعل العنيفة او ترفع اعلام الحروب وبيارقها فوق البر والبحر .

هذه الأذن الصغيرة، كما العين حجما وسمتا، تمشي بنا الى حافة الفرح كما تمشي بنا الى تخوم القرح، ومع ذلك لا أحد منا يراجع أذنه حين تعبأ بما يسمع ويميز الخبيث من الطيب عند السماع، حتى ينجو من عثرات الأذن ، وزلات التأويل الحالكة.

تلك هي الأذن؛ ومن ورائها ثقافة القيل والقال…

Related Articles

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button