
بقلم: آسية إعلوش(*) والدكتور المهدي السرسار(**
تمهيد
- العهد الجديد”، العهد الذي لم يأت بأي “جديد” يفيد، بل كان يشبه إلى حد بعيد، الوقوف على سطح متصدع من الجليد، ينذر بسقوط حتمي و أكيد. أجَل ،إنه “العهد الجديد” أو بالأحرى اللعنة التي طالت كل القطاعات الحيوية لبلادنا (التعليم, الصحة، الشغل) و تسببت بتصدعها ثم انهيارها التام فيما بعد.
“العهد الجديد”هكذا تمت تسمية ” المشروع التخريبي” لا الإصلاحي” الذي قدم على أنه :الورقة الرابحة”، و “قارب النجاة الذي سيصل بالاقصاد الوطني إلى بر الأمان.
يأتي هذا المشروع كوصاية قدمها البنك الدولي لمعالجة المشاكل و الأزمات التي يعاني منها المغرب و التي ترمي بالأساس إلى العمل على تشجيع المغادرة الطوعية، مما سيخفض تكلفة الأجور التي يبدو، و للأسف الشديد، أنها أثقلت كاهل الدولة و استنزفت ميزانيتها. بيد أن هذا الحل الذي تغنى به مسؤولون مغاربة كثر، بسذاجة، لم يأت بالنتائج التي ترضي طموحات المؤيدين له، بل ، على العكس ، تسبب في كارثة حقيقية لم تحسب لها الدولة حسابا. فبدل حصد ثمارها, وجد الخبراء الاقتصاديون أنفسهم أمام مفاجأة صادمة: ماذا بعد مغادرة ” الأطر الهامة” و ذوي الخبرات و الكفاءات العالية، الإدارة العمومية، سوى الهاوية ؟ لقد أصبحت الإدارات المغربية، بين عشية و ضحاها ، خاوية على عروشها تعاني خصاصة كبيرة في الموارد البشرية !
في ظل هذا الوضع الكارثي، عمدت الدولة إلى نهج سياسات و مخططات استعجالية لتدارك الموقف. إلا أن هذه الأخيرة جاءت أفظع من سابقتها لتقضي كليا على آخر بصيص أمل تعلق به المغاربة من أجل مستقبل أفضل.
و في ما يلي بعض هذه الحلول الترقيعية التي لم ولن تحل شيئا بكل تأكيد ، بل ستزيد الوضع سوء.
1/ التوظيف بموجب عقود : حل آخر من الحلول الجائرة
بعد الاعتراف الرسمي الذي أدلى به كبير الخبراء الإقتصاديين بالبنك الدولي[1] مُقِرّاً فشل المشروع الإصلاحي الذي اعتمد أساسا على” المغادرة الطوعية”, معتبرا إياه خطآ جسيما و سوء تقدير كغيره من الأخطاء الاقتصادية التي يتعين على المغرب الاستفادة منها، عمدت الدولة, في حالة من التوتر و الذهول، إلى صياغة حلول استعجالية نَصِفُها شخصيا بالمتهورة، كان من بين أبزها: التوظيف بموجب عقود على أن لاتتجاوز مدة التعاقد الإجمالية أربع سنوات فقط، مما يعني أنه لن يترتب عنها ترسيم بأطر الإدارة العمومية.
في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن عملية التوظيف بموجب عقود، تمت التوطئة لها ، تدريجيا ، وفق مخطط معد مسبقا يمَكِّن الدولة من التنصل من جل مسؤولياتها عبر تنزيل ما أطلق عليه ” الميثاق الوطني للتربية و التكوين “، رافقته ضجة إعلامية سلطت الضوء ، مطولا، على إيجابيات و محاسن “اللاتمركز” و “اللامركزية” اللذين قيل عنهما بأنهما الوسيلة الناجعة لتقريب الإدارة من المواطنين، و تمكينها من الانفتاح بشكل أكبر على المحيط. لكن ماحدث خلف الكواليس أمر آخر، كان الهدف الأساسي منه نزع عدد كبير من اختصاصات الإدارة المركزية وتحولها مباشرة إلى الأكاديميات الجهوية للتربية و التكوين لتتولى مهمة القيام بها. فنجد على رأس هذه الاختصاصات: مهمة تدبير الموارد البشريةالتي شكلت بدورها المحور الأساس للميثاق الوطني.
إن كل ما ذكرناه ، حتى الآن ، يعكس ، بوضوح تام ، الغرض الذي خلق من أجله القانون رقم 00.07 الخاص بالأكاديميات الذي أقر جملة و تفصيلا بأن هذه الأخيرة ستلجأ هي الأخرى للتوظيف بموجب عقود . فماهو إذن التوظيف بالتعاقد ؟ و ما هي الاجراءات التي جاء محملا بها البرنامج الاستعجالي؟
أشرنا سابقا إلى أن التوظيف بموجب عقود لا يترتب عنه ترسيم بأطر الإدارة العمومية. لكن الإشكالية الكبرى تكمن في كلمة “التوظيف”. و لكي نفهم أكثر ما يحمله مصطلح “التوظيف بموجب عقود في ثناياه،” نطرح التساؤل التالي: هل يعتبر العمل بموجب عقد مع الأكاديميات بمثابة وظيفة؟
يمكننا أن نجيب على الفور بالنفي. لأن ، بكل بساطة، كل عقد يبتدئ ببند يعتبر تعاقدا و ليس توظيفا. فهو حسب مقتضيات البند 13 من عقد العمل مع الأكاديميات: عقد يمكن فسخه ” من طرف مدير الأكاديمية الجهوية للتربية و التكوين في ظرف 30 يوما من تاريخ توصل الأستاذ المتعاقد بالإشعار.[2]
ويهدف هذا النوع من العقود لجعل المُدرِّس متنقلا غير ثابت، يعمل في أكثر من مؤسسة، تتعدد اختصاصاته لكونه سيُدَرِّس أكثر من مادة. أما عن ساعات العمل، فبالإضافة إلى الموسم الدراسي، سيتعين على المدرس العمل حتى خلال الفترات البينية و قبل الدخول المدرسي.لكن ماذا عن توظيف مديري هذه المؤسسات؟
حسب ما جاء ، ضمنيا، في الميثاق الوطني للتربية و التكوين ، فإن توظيف مديري المؤسسات سيتم انطلاقا من معايير ذات طابع اقتصادي، مقاولاتي، تدبيري و إداري محض ، بعيدا عن المعايير القانونية ، خاصة التربوية المعمول بها سابقا.ويؤكد الميثاق ذاته أن تعامل الدولة مع الأكاديميات و المؤسسات الجامعية سيتم وفق نظام جبائي يشجع خوصصة التعليم لمدة 20 سنة كاملة مع إعفاء مؤسسات أخرى كليا من أداء الواجب الضريبي. إلا أن النقطة الأهم، تظل تلك التي تهم تدبير الموارد.و هنا بيت القصيد؛ إذ أقر ذات النص بالتفويض الكلي لتدبير الممتلكات و الموارد للجامعات و الاكاديميات الجهوية بموجب عقود أيضا باعتبارهم شركاء اقتصاديين.
لقد بات من الواضح تحوُّل أحد أهم القطاعات العمومية إلى استثمار مربح يتقاسم فيه كبار الرأسماليين الأرباح، فيما يدفع ضرائبه الجائرة المواطنون البسطاء.
2/ خوصصة التعليم : انتهاك واضح لحق الأفراد في التعلم
إن خوصصة التعليم ستكون الطلقة الأخيرة و القاتلة التي ستوجهها الدولة صوب جسد الشعب المغربي الهزيل الذي ما عاد يستطيع الصمود أمام كل هذه القوانين الجائرة و السياسات التعسفية و الشطط في استعمال السلطة. لأن التعليم هو أبسط الحقوق الفردية وأهمها. فإذا ما تم وضعه في قبضة الرأسماليين ستهضم حقوق شريحة كبيرة من أبناء هذا الوطن، ستتسع بذلك الرقعة الفاصلة بين طبقات المجتمع، و ستترسخ الطبقية في أبشع صورها.
لا يخفى على أحد أن مسلسل إغلاق المدارس العمومية في عدد كبير من المدن خاصة الكبرى منها كالدار البيضاء، الرباط و طنجة ، و انشار المدارس الخصوصية بوتيرة سريعة و غير مسبوقة كانتشار الطفيليات، ما هو إلا تمهيد لوضع آخر لبنات “العهد الجديد”، عهد تستحوذ فيه الرأسمالية الجشعة على آخر ما تبقى من القطاعات الحيوية للدولة، فتضخ فيها دماء جديدة، وتحركها عقلية مقاولاتية و ربحية بدون منازع.
الخطير في الأمر أن هذه المخططات تستهدف بالدرجة الأولى الطبقة الفقيرة لتحرمها من الحق في العيش الكريم. فلا عمل بدون شهادات مدرسية ؛ و لا حياة بدون عمل ؛ ولا صحة من دون مال؛ و لا عمل من دون صحة.
خاتمة
بالإضافة إلى الحلين السابقين، يمكننا العروج سريعا على تقنية أخرى عمدت إليها الدولة حتى تعفي نفسها من خلق مناصب جديدة . فعوضا عن فتح مباريات التوظيف أمام حاملي شهادة الدكتوراه العاطلين عن العمل، وضعت من بين أهم الشروط أن يكون المترشح لخوض المباراة دكتورا موظفا. الأمر الذي أثار حفيظة و سخط الآلاف من الدكاترة المعطلين ردا على ما أسموه انتهكاها خطيرا لمبدأ تكافؤ الفرض و عبثا بحقوق المواطنين في العمل و تحقيرا لكفاءاتهم.
فإلى متى ستظل الدولة المغربية متعلقة بالحلول الترقيعية مع علمها التام بعدم نجاعتها؟ ماذا عن مستقبل الأجيال القادمة؟ هل تنصلت دولة الحق و القانون من جل مسؤولياتها للتحول إلى الدولةـ المستثمر و الفاعل الإقتصادي؟ثم إن غرق الدولة في المديونية لا يبرر لها أيا من هذه السياسات و الحلول الجائرة…
(1) بيير شوفور، كبير خبراء الاقتصاديين بالبنك الدولي و منسق التجارة الإقليمية بالشرق الأوسط و شمال أفريقيا
البند 13 من عقد العمل مع الأكاديميات(2)
(*)باحثة في مجال القانون الاقتصادي الدولي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية و الإجتماعية بطنجة، جامعة عبد المالك السعدي.
(**)أستاذ القانون العام بنفس الكلية .
بيير شوفور، كبير خبراء الاقتصاديين بالبنك الدولي و منسق التجارة الإقليمية بالشرق الأوسط و شمال أفريقيا
[2]البند 13 من عقد العمل مع الأكاديميات.
(*)باحثة في مجال القانون الاقتصادي الدولي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية و الإجتماعية بطنجة، جامعة عبد المالك السعدي.
(**)أستاذ القانون العام بنفس الكلية .
Back to top button
واصلي استاذة آسية مقالك جميل.. دمت متألقة