ثقافية

الوطن المعولم

      عبد الرحيم اليوسفي    

مفهوم الوطن لم تعد مساحته بذاك الوتر الضيق، الذي أطره الفهم التقليدي سابقا _وبنية تغريضية_ ، حيث الوطن يمثل الهوية والانتماء والعرف والتقاليد واللغة والثقافة والأم الحاضنة، استنادا إلى معايير الجغرافيا والتاريخ والنعرة العرقية واللسنية..
إن مفهوم” الوطن ” في الاعتقاد الحديث مع هيمنة العولمة، واكتساحها للعالم بأسره ، حسب تعبير هيغل (الذي اعتبر العولمة بمثابة البديل المنتظر الذي ينتهي إليه التاريخ البشري. الفكر الجدلي عند هيغل ) يصبح معها الإنسان في كل مكان يخضع لثقافة عالمية كونية موحدة بين كل بقاع العالم لا تعترف بأي نوع من الحدود أو الاعتبارات لا الجغرافية اوالعرقية أو العقائدية …) فالعالم بأسره مع العولمة، أضحى اليوم وطنا للجميع ، لكل منا الحق في اختيار مأواه المعرفي أو الانتمائي أنى شاء، لا كما كان سابقا، مع الطرح الديماغوجي الذي عير الوطن واختزله وحدده من خلال منطلقات و استراتيجيات سياسية، الغرض منها إقناع الآخرين بتراهة ” الوطن هو الأم ” استنادا إلى مخاوفهم من الاغتراب أو أفكارهم المسبقة التي تظهر لهم أن الوطن هو الهوية، من خلال مناشدة التحيزات الشعبية واعتماد خطابات ادعائية وحماسية ،من قبيل المواضيع القومية او الشعبية ، لاستثارة عواطف الجماهير، عبر حيل المناورة السياسية ،فكان خطاب الوطن _ظاهريا_ يقوم على خدمة مصلحة الشعب، واستتباب استقراره وتأمين سلامته، بينما _عمليا_ فهو خطاب ملغوم يسلكه السياسي للوصول الى السلطة والحكم والاستمرارية في التحكم ، ( انظر تاريخ الحركات المقاومة للاستعمار ،وماذا جنت من بعد الاستقلال ). فالمناداة بالوطنية كانت من زاوية سياسية، ليس إلا. وهي مجرد خطابات إيديولوجية ذات منطلقات سياسية، تم تسريبها إلى المواطن الضعيف كفكرة الروح الوطنية. التي تلزمه بالذود والدفاع عن قطر سياسي، يخاله ملكا له، في حين أنه لا يضمن له أدنى حقوقه الدستورية ( المسكن و المأكل والشغل والتعليم وحق الرأي …….)
فهو حيز سياسي لايضمن للمواطن أي شرط من شروط العيش الكريم ، إذ هو متحكم فيه من طرف النخبة السياسية الحاكمة ، التي تصر بقوة على الحفاظ عليه سليما معافى، خدمة لأغراضها غير المعلنة. وهي تسخر لذلك رعاياها المستغفلين .
فالخوض في الحديث عن ” قدسية الوطن” كذلك يعرج بنا نحو مسلكية إيديولوجية أخرى معتمدة لتضليل المواطن، تتمثل في ( الدغمائية ) وهي في غايتها الخبيثة ،تتقاطع مع مسلكية (الديماغوجيا) التي أسلفنا ذكرها، وقد أطلق الإغريق عليها ( الدغمائية ) قديما بالمعتقد الأوحد ، الذي يقوم على حالة من التزمت لفكرة معينة، من قبل مجموعة ما متحكمة ، لا تقبل النقاش، أو سوق أي دليل لمناقشتها وإقناع جمهورها . ( الوطن مقدس )، وهي فكرة مفروضة بالقوة، لا تقبل النقاش وتخلو كلية من وسائل الإقناع والحجة والدليل. مما يجعلها تستبطن الخذعة والإيهام ،من أجل تهريب أموال الشعوب عن طريق جوازات سفر ميزية و مصنفة، كما تصنف الفنادق ،تضمن لهم وحدهم الاستقرار بعيدا عما ادعوه وطنهم عند الاقتضاء .
إن مفهوم الوطن مع العولمة، أو العالمية الحديثة، قد تجاوز حيز الانتماء العرقي أو الجغرافي أو اللغوي أو السياسي الضيق والموهوم ، ليصبح للوطن مفهوم كوني لا يقبل الوزيعة، ولايحتاج إلى رص قوات مدنية أو عسكرية للدفاع عنه.. إنه العالم ، وهو للجميع.

Related Articles

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button