فدوى المؤدب
صرخ الهاتف في ميعاده.تسللت يدي من بين الغطاء الصوفي لتخمد أنفاسه … نظرت من نافذة التذمر .بقيت أتلوى و ألاعب الكسل… ألا يتأخر الفجر قليلا . إنه حتما يأخذ أوامره من مديري…والغريب أننا جميعا نعدل الوقت على ضوء مكتبه. عجيب أمره. أعمل بشركته منذ سبع سنوات و لم أقابله مرة واحدة. إنها عُملة الثراء الفاحش.كنا نتلقى الأوامر من خلال صوته الجذاب. كنت كلما سمعته أتخيل نفسي بين أحضانه أراقص الحلم الجميل. وكان زملائي يتندرون بلوحة خيالي هذه.
كم كنت غبية حين بحت بحلمي لزميلتي يوما من أيام الفراغ. وماذا ! داهمتني الدقائق ..وهي تحترف العدو الريفي.سأتأخر على القطار . وكالعادة كان الجنون يقودني بين غرفة و أخرى. وصلت باب المنزل بعد صراع جبار. و كالعادة نسيت حقيبتي.رجعت أدراجي و أخذتها بحنق. سقطت منها أقصوصة “عصا البصيرة”. نظرت للساعة.. ليس لدي وقت لألتقطها.. تركتها تستغيث شبه عيون لتقرأها..ما همني. وخرجت مسرعة و الحنق يسبقني و البسمة تلاحقني. إنها لم تقابلني منذ سنين مع إطلالة الشمس المستفزة. ونظرت إليهم . نفس الوجوه ألمحها صباحا و تغيب مساء.وهم يتجاذبون أطراف الحديث وملامحهم البشوشة تزيدهم غباء . الوقت لا يرحم. وكالعادة كنت آخر من صعد العربة. أتعثر بأفكاري المدفونة بدفتر مواعيدي. ووجدته جالسا في مقعده المعهود. و كأنهما عشيقان تواعدا على اللقاء. وأخذت لي شبه مكان. إنه نفس الكرسي بجانب النافذة. و كأنه لدي الوقت للنظر إلى مرور الحياة! ألا يكفيني المسرح بمقر عملي! و كان يبتسم وهو يستمع لست أدري إلى ماذا؟! ربما يتصنت علي ويسرق خواطري . و حينها ابتسمت. وكأنه رآني فالتفت إلي ورماني بعتاب رقيق من وراء نظارته السوداء . احمر وجهي خجلا. ما بي حمقاء. إنه كفيف . و رقبت لوهلة تلك العصا وهي ترافقه في رحلته. و تساءلت كيف له أن يكون أنيقا و مرتبا وهو… وتلك العدسات الاصطناعية زادته وسامة. آه لو لم يكن أعمى. ولا أدري لماذا تذكرت القصة المحتضرة على سجادي الأحمر. أعطاني إياها يوما حارس العمارة. قال وجدها باسمي ولا يعرف من الباعث. وكلما أردت تصفحها أغرق بمشاغلي. إنها الحياة. أنا إنسانة ناجحة و وقتي من ذهب. كيف لا و أنا وسيط بالبورصة .المشاعر ليس لها سوق أو فائض. بكم سعر الحب اليوم؟ نزلت أسهم الإخلاص… وقع تفليس شركة الصداقة!و ضحكت في سري بتهكم. لا أعلم كيف لم أفقد إلى الآن دعابتي في غياهب الرتابة! و مرّ الوقت وتتالت الأشهر أو ربما السنوات . كانت مرآتي فقط تراني لوضع أحمر الشفاه الوردي كل صباح. و ذات يوم صعدت القطار ولم يكن هناك. واليوم الموالي لم يعد هناك. وانتابني القلق. واحتد في الحنق. و ما خطبي أنا بصاحب العصا السحرية!وبدأت أستيقظ قبل الموعد و أنتظر بالمحطة علني أراه. وبت أتجمل بتلك البسمة الغبية على وجهي و أحادث الراكبين الأوفياء له ربما أعلم عنه شيئا. ولكن الصمت المبهم كان يستفزني.و الغريب أن مقعده بقي فارغا هو أيضا وفي لأنفاسه الجميلة. و باتت أفكاري مبعثرة رغم أنني أصبحت مثله مرتبة. نسق يومي تغير. وأصبحت أنظر من النافذة ربما أصادفه ورأيت جمال مدينتي. و ما عادت النجوم تضيء غرفتي لكتابة تقاريري اليومية. أصبحت أغازلها كل ليلة علها تسرّ لي بسبب غيابه. و اكتشفت أنني أحبه. و ذات ليلة تذكرت تلك القصة اليتيمة. مسكتها برفق و كأنني أراها لأول مرة. و دق قلبي حتى خلت أنه سيتوقف نهائيا عن الوجود. اشتممت نفس الرائحة. إنه… إنه عطره. و التهمت الحروف التهاما و تعثرت بلهفتي حتى وقعت مرارا بين نقاط الاستفهام والتعجب. إنها مذكراته. أعطاني إياها قبل نشرها. كان ينتظر مني لفتة و أنا كنت عمياء. أجل أنا التي كنت لا أبصر. و من سنين لم أتذوق طعم دموعي الساخنة. وها هي تملأ كأس قهوتي الآن. ومرّ الوقت. و ذات صبح وصلت المحطة مبكرة كالعادة الجديدة لأتجاذب أطراف الحديث مع خلان الطريق ووجدته واقفا هناك و هم به يحيطون و كأنهم له مني يحمون! وكان أجمل مما مضى و تلك النظارات السوداء تحكي عنه الكثير. هل أبوح له بحبي؟ انتابني الهلع. ربما لا يقبل… ربما له حبيبة.. وسبقتني عبراتي و عدت من حيث أتيت. كتبت إرسالية قصيرة لمديري أنني في رخصة مفتوحة.ماذا بقي لي! الزهر بين ثنايا جسدي يكاد يجف وأنا عن عطر الحياة كنت عازفة. و اليوم أريد أن أعزف سمفونية قلبي ما تبقى لي من أحلام العذارى. وصلت باب العمارة و أحسست بخطى ثابتة تلاحقني. إنها أذيال الخيبة أكيد. و لم ألتفت. و توقفت فجأة. إنه هو. نسيم عطره لا أتوه عنه. وتملكني الذعر.. و كاد حرفي يعتزل عن فكري للأبد. ترنحت و كدت أقع. إلاهي كان ملمس يده رقيقا جدا. وكان صوته جذابا وهو يناديني باسمي . ماذا؟! إنه هو.. يراقصني. إلاهي هل أنا في حلم. وقال: أوافق على الرخصة بشرط… و واجهته أخيرا. كادت زرقة عينيه تغرقني و أحسست بالدوار. أين العصا.؟ إنه يرى. إنه مديري. إنه راكب القطار. إنه… إنه كاتب الأقصوصة!و… فتحت عيني ووجدته أمامي. كانت الغرفة بيضاء. وجاءني صوت الممرضة من بعيد. حمدا على سلامتك. آه تذكرت. أغمي علي حينها. وابتسم لي. وضع يده على شفتي المرتعشتين. وقال: عاد إلي البصر عندما عادت إليك البصيرة. ومرّت السنوات و بتّ أنا له تلك العصا السحرية ،و بات هو كنور الفجر يعدّل دقات قلبي و عقارب الزمن عزلها الأمل لعدم الكفاءة ،واحترقت دفاتر الرتابة بنيران الهوى المجنون.