أدبيات
وحي الحنين

هناء مهدي
لم يبق من آثار البيت القديم سوى شجرة التين الشامخة. لازلت أذكر يوم كانت شتلة صغيرة. أودعها جدي تربة “وادي لاو”، فأينعت وأثمرت. لم يكن تينها من النوع الجيد؛ لكن أمي تجعل منه مربى لذيذة، تدخرها لأيام الشتاء.
كلما مررت من هناك.. استوقفني سحر الشجرة. سحر لا تدركه الأبصار من حولي.. وجود الشجرة في المكان أضحى نشازا يرغب عنه الجيران .. لكنها ببشاعتها التي لا أنكرها، وثمارها المتساقطة على الرصيف؛ تهمس لي بحكايا عن أمينة، حين كانت تسكن حديقتها.. حين كانت تستظل بها من شمس الصيف اللافحة، و تعد على ظلالها موائد شاي نتسامر تحتها والعائلة.

لازال يسكنني الحنين إلى بيت أسقط.. كانوا يستعجلون بتره من هناك. لم يعد يناسب حيا جديدا سيستوطن المكان. وكنت أستبطئ هدمه، وأدعو أن لا يفعلوا.. دعاء ما تجرأت البوح به لأنه سيعدو ضربا من الهذيان. بعدما حكم تصميم التهيئة الجديد، أن يجعل مكانه شارعا واسعا. كان وجود البيت بالمكان يثير سخط السائقين، ونقمة السلطات.
تأخذني الذكرى بعيدا في الثمانينات. كنت وقتها طفلة صغيرة
عندما اتفق أن يكون لنا بيت هناك بنته آمنة. كان بيتا وحيدا يتربع في شموخ، منطقة مكاد، ب”وادي لاو”… حيث كنا نقضي هناك عطلة صيف طويلة.. بين البحر والمروج .
بيت بسيط وحياة أشبه بالبدائية.. لا حنفية ماء.. لا كهرباء.. لا تلفزيونا ولا هاتفا… نجعل من ماء البئر البارد مشربا ومغسلا، ومنه نعد شاي المساء، وبين جنباته نجتمع عند مغيب شمس النهار بعد طلوعنا من البحر، متسابقين.. من أجل دش بارد ومنعش ..
ما زال البئر هنا أيضا يبوح بتلك الذكريات الجميلة، لكنه لم يعد إلا خزانا احتياطيا، جعلوا عليه محركا بشع جماله البسيط، وكان بالأمس، ببساطته أنيقا يحمل على جنبه دلوا مربوطا بحبل متين يصله بالقعر.
البيت القديم …في وقت قريب كان فضاء مفتوحا على البر والبحر؛ على حقول الفلاحين ومراكب الصيادين..
و على صغره، كان يجمع كل العائلة. كان محجا للزوار والضيوف ولكل عشاق البحر والاستجمام…
أذكر أن أمي كانت تضع حصيرا على أرض حديقة لاحدود لها.. كنا نسهر هناك عند أفول شعاع الشمس الأخير ، وحلول ضي القمر؛ وعند توهج النجوم… نتسامر والسعادة تغمرنا وتغرينا.. في مشهد جميل؛ يتعالق فيه البحر والسماء.. وتشرق صفحة الماء ثانية، عند حلول القمر، وعند تهلل النجوم في المساء..
ثريات ربانية ساحرة تضيء مجلسنا.. نظل زمنا نتطلع للبحر المتوسطي.. يعزف موسيقى هادئة تمزق سكون الليل القاتل، نرقب سفن الصيادين تشعل قناديلها.. وننظر للسماء ترسل النيازك.. نخالها ترجم الشياطين.. نبتهج للمنظر، وننتصر للعقاب العادل في مشهده الآسر .
كل شيء تبدل هنا …لم يعد لمنطقة مكاد ذلك السحر والجمال، بعد أن استوطنتها الشقق المتعالية وآلات البناء، وفصلتها دروبا ضيقة، وممرات بسيطة. وأسكنتها بدل سنابل الذرة.. حيطانا تترامى على جنباتها مخلفات البنائين.. وبدل السكون.. تنبعث ضوضاء المصطافين..هنا وهناك.
كلما أخذتني الطريق نحو الشجرة، رحبت بي واحتفت . وهمست لي بالذكريات. عندما كنا نمتلك البر والبحر وحدنا . ونستمتع عند المغيب بمعزوفات الطبيعة وترانيم صلاتها الهادئة على أثير أمواج البحر، الذي كان يعزف هو الآخر، نوتات موسيقية رائعة، تراقص سكونا عجيبا كان بالأمس القريب يستوطن المكان.
..طمست النجوم من السماء؛ وهجر السحر المكان؛ وأصبح الجمال في مكاد، لا يستوطن إلا الذاكرة.