
خديجة قرشي
توقفت فجأة عن الكتابة، وضعت القلم جانبا وتساءلت: لماذا انتهت هاهنا؟ وهي التي لم تكن تملك إلا الحلم والسفر في الزمان والمكان دون أن تنتبه لتلك الأصوات التي كانت تخترق صمتها فتمزقه.
كانت مرحة تتلألأ عيناها فرحا.. تضحك، ترقص وتخشى في كل لحظة انتهاء حلم جميل داعبها ذات فقد.
كانت تنآى بتفكيرها عن النهايات، وتشغل بالها بالبدايات فقط، فالبدايات تكون دائما أجمل وأكثر عفوية وأقل وجعا. ربما لأنها كانت حينئذ أشد حرصا على الاهتمام بهذه البدايات وبجميع التفاصيل الصغيرة المرتبطة بها.
حملتِ القلم من جديد وقرعت بابا أغلقته منذ زمن بعيد، تبحث عن بعض التفاصيل التي بقيت عالقة بذاكرتها. وبين الحين والحين ترتشف قهوة سوداء دون أن تحس بنكهتها أو تتلذذ طعمها، وتكتفي بمداعبة فنجان الخزف الأبيض بين يديها، كأن ما يحتويه امتزج بقلق وخوف وتوجس وانتظار.
تركت مذكرتها جانبا ووضعت القلم فوق الجملة الوحيدة التي تمكنت من كتابتها، وفتحت درج المكتب ، ثم حملت غماضتين سوداوين وضعتهما على عينيها ،و أسندت ظهرها إلى الكرسي ورفعت رأسها إلى أعلى لتستحضر قسرا أو تلاحق ذكريات جمعتهما معا وزرعت الفرح في قلبيهما وأصبحا لا يفترقان.
كانا يتقاسمان الكثير من الأشياء، يحبان القراءة والكتابة ويعشقان الموسيقى. وكلما مرت الأيام أدركا أنهما يشبهان بعضهما حتى في طباعهما، ربما لأنهما ينتميان لنفس العالم ونفس المكان،ويشتركان أيضا في نفس البرج، وإن كانا لا يؤمنان حقيقة بما يتوقعه المنجمون، لكنهما مع ذلك كانا يمزحان ويتسابقان لتعداد خصائص وميزات برج جمع بينهما وزاد من تلاحم روحيهما كما كانا يعتقدان.
انتفضت فجأة، وتساءلت بهوس شديد وهي تعدل جلستها وترفع الغماضتين قليلا عن عينيها: لماذا انتهت ها هنا؟ وقد كانت تعلم أن هذا المشترك الفكري والعاطفي الذي جمع بينهما ذات جنون لكي يصنعا الفرح، لن يُسمح له بالعيش، وأن الموت ينتظره في كل لحظة وحين، فقد كانا يعشقان الموسيقى ولم يرقصا أبدا على أنغامها.
كانا يتسامران ويرسمان عالما ملونا وحدائق غناء سامقة أشجارها، ويحلمان بالتجول بينها.. يدا في يد، تحت أشعة شمس مارس الدافئة، لكن الحلم ينكسر ولا يلتقيان عند أسوار الحديقة، بل يكتفيان بالسفر عبر كل الأمكنة الممكنة بصمت مشوب بالحذر، يراقب حروفا متمردة تتسلل لتكتبهما معا.
تبتسم، تتذكر أنه كان دائما يصفها بالجنون وهي تعرف أنها كذلك، لم ينقصها سوى أن تصرخ عاليا لتقول للجميع إن من حقها أن تحيا كما أرادت لا كما أراد الآخرون ، وأن تجهر بكل ما يختلج صدرها دون أن يكون هناك على الجانب الآخر من يحصي خطواتها ويراقب فرحا لمع فجأة في عينيها.
كانت تدرك أن جنونها قد بلغ منتهاه، تسلل خلسة إلى جوارحها، فشعرت في أعماقها بالسعادة. جرفها الزمن إلى حيث لا تدري واستجابت للنداء في لحظة تيه.
كانت تعرف أنه يسائل نفسه حين يقرأها ، ويصمت ليحدث قلبه، يراوغ عقله أحيانا ويثور عليه أحيانا أخرى. يصمت ثم يختفي ليظهر من جديد.
كانت قصة جميلة احتارا في اختيار زمنها ومكانها، لكنهما أبدعا في اختيار لغتها وكلماتها ومصطلحاتها التي أصبحت بعد فترة من الشغب والجنون قاموسا خاصا بهما، لكن هذه القصة انتهت قبل أن تتجاوز الفصل الأول ، لأن رياحا شديدة هبت، بعثرت الأوراق، كل الأوراق واستجابا معا للعبة القدر الذي كان حاسما في وضع النهايات غير المناسبة.
لم يكن الذنب ذنبها ولا ذنبه هو، إلا أنهما أدركا أن للعقل سلطة على القلب منعته من الحياة.
لماذا انتهت هاهنا؟
ابتسمت لكل الصور الجميلة التي مرت في ثوان بمخيلتها ، والتفاصيل الصغيرة التي كانت تصنع الحدث، وحملت القلم من جديد. رسمت علامة تعجب ، ثم علامات استفهام ؛ وبحركة سريعة من يدها اليمنى، رفعت خصلات شعرها التي انسدلت على وجهها تحجب عنها الضوء، ثم توقفت عن السؤال…